عالم القطار
كنت أسارع الخطى فى هذا الوقت من نهار صيف حار .... لعلى ألحق بالقطار فى موعده ... كنت مسافرا و قد حزمت حقيبه كبيره لذلك و حملتها فى يدى ... بالكاد أتحمل عبء حملها طوال الطريق .. و الشمس تبدو و كأنها قد تعامدت على رأسى تماما و لا يحمينى منها سوى قبعتى البائسه ...
كان العرق قد بدأ يتصبب على جبينى بغزاره .. و مما زاد الأمر سوءا هذه العاصفه الرمليه التى حملت كل أنواع الغبار فى وجهى فى هذا الطريق الصحراوى الجاف ....
و ها هى قد لاحت فى الأفق ..
محطه القطار أراها ها هى على مرمى البصر و قد أصطف المسافرين على رصيف المحطه و بجوارهم حقائبهم ... كل فى أنتظار رحلته و أعينهم متعلقه بخط القطار متطلعين الى الأفق فى انتظار ملامح القطارات القادمه
...
كنت لا أزال بعيدا ...
توقف القطار فى المحطه و بدأ المسافرين فى النزول منه و بدأ أخرين فى الركوب واحدا تلو الأخر .. تقريبا ركبوا جميعا حيث بدا الرصيف بعدها خاليا تماما الا من بعض الركاب المغادرين ...
أسرعت الخطى نحو محطه القطار .. لابد أنه قطار رحلتى و لا أريد ان أفوته .. حملت حقيبتى الكبيره فوق رأسى و بدأت فى الركض ... و عينى معلقه بشىء واحد فقط ... القطار ...
مرت بضع دقائق و أنا على هذا الحال ... و قد بدأت فى اللهاث و أنهكنى التعب ... و أنا أحارب الوقت للحاق بالقطار ... لم أكن أتمنى أن يطول نهار الصيف و الوقت بقدر ماتمنيت فى هذه اللحظه
...
ثم حدث مالم أكن أتمناه أبدا ... لقد أطلق القطار نفيره و بدأ فى التحرك ... كانت لا تزال تفصلنى عنه العديد من الخطوات !
أسرعت خطواتى نحوه .. بدأت فى الركض بسرعه .. تماما بمحاذاه مقدمه القطار لعلى أستطيع اللحاق به و القفز داخله
ها أنا أجرى بمحاذاه عربه المقدمه و أقترب منها .. أركض و أركض ... كانت حقيبتى تمنعنى من الركض بسرعه أكبر .... نظرت الى أعين المسافرين داخل العربه .. لم يكونوا مهتمين بى ... فليس لديهم ما يقدمونه ... رأيت ذلك الشاب فى العربه الأماميه المكيفه بجوار صديقته ... و قد أحتضنها بذراعه و أخذا يتبادلان القبل فى رومانسيه ... عجيب أنت أيها القطار ... بداخلك مشهد على شاطىء الكاريبى و خارجك مسافر يلهث فى جحيم الصحراء و الصيف ...
استغرقت بضع ثوان مأخوذا من المشهد .. ثم ما لبثت أن أعدت تركيز أهتمامى على اللحاق بالقطار .. ها أنا ذا أقترب أكثر .. و .. اللعنه !!!! .. لقد سقطت حقيبتى من فوق رأسى ! ليس هو الوقت الملائم لمثل هذا أبدا ! .. توقفت للحظه لأجمع حقيبتى الملقاه خلفى ... التقطتها بغضب و سرعه ثم عاودت الركض ثانيه بكل ما أملك من قوه .. كانت قد فاتتنى العربه الأولى و العديد من العربات خلفها ... و ها أنا بالكاد أركض موازيا لمنتصف القطار ...
حاولت أن أفعل كل ما بوسعى لألقى حقيبتى بداخل أى من عربات القطار ثم ألقى بنفسى وراءها عبر أحد أبواب العربه .. و لكنى لازلت بعيدا و لا أحتمل مخاطره كتلك حتى أقنرب تماما من القطار ...
أقتربت أكثر من القطار و أنا أركض .. لمحت هذه العربه و بداخلها بعض المسافرين يهللون و يرقصون .. يبدو أنها أسره صغيره تحتفل مع طفلها .. أه .. يبدو أشبه بعيد ميلاد .. نعم هو كذلك ... عيد ميلاد لذلك الطفل الصغير و قد بدأ الكل يقبله و يوزعون الحلوى و المشروبات .. عيد ميلاد له .. و يوم وفاه لأملى فى مواصله الرحله .. لكننى لم أفقد عزيمتى بعد .. و لازلت أواصل الركض .. و بمنتهى القوه ..
كانت قد تجاوزتنى العديد من العربات و لم يتبقى غير القليل لألحق بأى منها .... أسرعت الركض بالقرب من أحد العربات و أقتربت منها بشده ...ها أنا على بعد خطوه صغيره ... ثم .......... بكل ما أملك من قوه ألقيت حقيبتى داخلها عبر أحد أبوابها ...
سقطت الحقيبه داخل العربه .. أخيرا جزء منى بالداخل .. يتبقى الجسد !!..
حقيبتى تنعم ببعض الظل و الهواء الرطب بالداخل .. و على أن ألحق بها .. يا ألهى .. بالكاد أتمكن من الركض ... لا استطيع اللحاق بهذه العربه أيضا و تركتها و أنا أتابع مؤخرتها فى حسره .. ما العمل .. حقيبتى بالداخل و لم يعد لدى خيار غير مواصله الركض و اللحاق بالقطار ....
أسرعت من ركضى .. ها أنا أقترب من العربه الأخيره .. أركض أركض أركض ... أنها فرصتى الأخيره ... وجدت داخل العربه مجموعه من الشباب يغنون بعض الأغانى أخذت ألوح لهم .. عسى أن يمدوا لى يدا ليلتقطونى بداخل القطار و يشدوا من أزرى .. كانوا مشغولين تماما بغنائهم و احاديثهم ... لا أحد مهتم .. على أن أفعلها وحدى ... اننى ألمح باب العربه الأن .. كل ما فى الأمر قفزه كبيره ثم ... الى الداخل ...
جمعت كل قوتى فى هذه القفزه .. و ألقيت بنفسى نحو الباب ... ثم .. لم أدرى بجسدى الا و هو يتهاوى بعنف على رمال الصحراء و قد تدحرج العديد من الأمتار و لفنى الغبار ...بالقرب من طريق القطار ..
كانت الأتربه قد غطت وجهى تماما .. و أتسخت كل ملابسى ... كنت ألهث بشده .. و أنا أستند على ركبتى و قد تعلقت عينى بالقطار المبتعد فى قلب الصحراء ..نظره يملكها الحسره .. و التعب ...
نظرت ألى مؤخره القطار .. و رأيت ما زادنى حسرات فوق الحسره و تعب فوق التعب ..
انه ليس القطار المنشود !!
فاللوجه المكتوبه على مؤخره القطار تحمل أرقاما غير تلك التى أنشدها...
.. كيف لم أتحقق من هذا ! ..
نظرت أمامى لأودع القطار بنظرى و قد أحتضن حقيبتى بداخله ...
ثم نظرت خلفى لأجد نفسى قد أبتعدت كثيرا فى قلب الصحراء بعيدا عن محطه القطار ...
و قد لمحت شيئا هناك بجوار المحطه .. أنه قطارى ... واقفا على رصيف المحطه و هو يتأهب للرحيل بعد قليل ...
لا أعلم اذا كان بأمكانى اللحاق به .. و أن استطعت فسيكون بدون أمتعه .. بدون متعلقات نفسى ... و بدون كبرياء السفر ....
القيت بنفسى على رمال الصحراء .. استريح مما عانيته فى هذا اليوم العصيب ...
لقد أنشغلت كثيرا بالناس و تبعتهم على غير هدى بدون تدبر .. و بدون التحقق من هدفى .. هذا هو ما أدى الى حالى الأن ...
لقد انشغلت أيضا بمتابعه أحوال الناس داخل القطار عن متابعه أحوالى أنا و التحقق من رحلتى .. و هم كانوا فى انشغال تام عنى ولا يهمهم أمرى... هذه هى الدنيا .. هكذا تعلمت هنا على رمال الصحراء .. لا تغرك زينه ما تراه و اقبال الناس عليه .. فقد لا يصلح لك و يكون سبب معاناتك ...
كما لا تنشغل بمتابعه أحوال الناس حتى لا يزيد همك .. أنشغل بنفسك .. و تحقق من هدفك .. ... ....



No comments:
Post a Comment